سقراط أفلاطون و أرسطو
قبل بزوغ فجر الفلسفة بمعناها الدقيق، شهد العالم اليوناني القديم تيارات فكرية مهدت لظهورها. يمكننا أن نتحدث هنا عن الحكماء الطبيعيين 🌊🌬️ الذين انصب اهتمامهم على فهم طبيعة العالم من حولهم بطريقة واقعية وعقلانية، محاولين إيجاد تفسيرات للظواهر الطبيعية بعيدًا عن الأساطير والخرافات. فقد رأينا نماذج مثل طاليس الذي أرجع أصل كل شيء إلى الماء 💧، وأنكسيمندر الذي تحدث عن مادة لانهائية كمصدر للكون، وأنكسيمانس الذي رأى أن الهواء هو العنصر الأساسي.
لاحقًا، ظهر السفسطائيون 🗣️ وهم معلمو البلاغة والإقناع. وفي هذه المرحلة تحديدًا، بدأ يظهر مصطلح "فلسفة". ولكن، هل ظهر الفيلسوف الحقيقي الذي يحمل تعريفًا دقيقًا للفلسفة؟ الإجابة هي: لا، ليس بعد.
الإطار الزمني لظهور الفلسفة: نقطة تحول في تاريخ الفكر ⏳
لقد تجاوزنا مرحلة التركيز على المكان ونتحول الآن إلى الإطار الزمني لظهور الفلسفة بمعناها الدقيق والفيلسوف بمفهومه الأصيل. يمكننا اعتبار المرحلة التي سبقت ظهور الفيلسوف سقراط مرحلة عقلية بامتياز.
- المرحلة العقلية: هذه المرحلة، التي تمثلها جهود الحكماء الطبيعيين، قد قطعت شوطًا مهمًا في الابتعاد عن التفسيرات الأسطورية والخيالية للكون. لقد حاولوا التأمل في الظواهر الطبيعية باستخدام العلم والمنطق العقلي. ومع ذلك، لم تصل هذه المرحلة إلى العمق والشمولية التي عرفتها الفلسفة في عهد سقراط.
سقراط: ميلاد الفيلسوف الحقيقي ومنهجه الفريد 🌟
سقراط هو بحق أبو الفلاسفة 👨🏫، والسبب في هذه التسمية يعود إلى أن معظم الفلاسفة البارزين في تلك الحقبة كانوا من تلاميذه. ولد في مدينة أثينا عام 469 قبل الميلاد وتوفي عام 399 قبل الميلاد. لم يتوفَّ سقراط بشكل طبيعي، بل أُعدِم.
- فلسفة سقراط الشفوية ومنهجه التوليدي: كانت فلسفة سقراط شفوية، فهو لم يكتب شيئًا. والسبب في ذلك، كما ذكرنا سابقًا، أنه ربما كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب. كل ما نعرفه عن سقراط وصل إلينا عبر تلاميذه، وأبرزهم أفلاطون.
- المنهج التوليدي (المايوتيكي): كان سقراط يعتمد في تعليمه على منهج فريد يُعرف بالمنهج التوليدي أو "المايوتيكي". لم يكن سقراط يلقن المعرفة لتلاميذه بشكل مباشر كما نفعل نحن الآن في قاعات الدرس. بل كان يسعى إلى استخراج المعرفة من داخل محاوريه من خلال طرح أسئلة متدرجة. يبدأ السؤال عادة بالمعنى العام للمفهوم ثم يتدرج نحو معناه الخاص.
- مثال: قد يسأل سقراط: "ما هو العدل؟" ثم يبدأ في تفنيد الإجابات العامة ليقود محاوره خطوة بخطوة نحو فهم أعمق وأدق للعدل.
- المعرفة كامنة في الإنسان: كان سقراط يؤمن بأن المعرفة توجد لدى الإنسان بالفطرة. وقد شبه منهجه التوليدي بعمل القابلة التي تستخرج الجنين من بطن أمه، فهو يستخرج الأفكار من عمق محاوريه.
- مثال: تخيل أنك تحاول تذكر معلومة ما. قد تحتاج إلى بعض التوجيه أو الأسئلة المحفزة لتتذكرها. هذا يشبه ما كان يفعله سقراط، فهو يساعد الآخرين على "توليد" أفكارهم ومعرفتهم الكامنة.
- "اعرف نفسك بنفسك": هذه هي مقولة سقراط الشهيرة، وهي تلخص جوهر فلسفته. لقد حول سقراط اهتمام الفلسفة من البحث في الطبيعة إلى البحث في القضايا الإنسانية مثل الأخلاق والسياسة والمجتمع.
- التواضع الفكري: كان سقراط يرفض الادعاء بامتلاك المعرفة، وكان يقول: "كل ما أعرفه أنني لا أعرف شيئًا". كان يعتقد أن الحقيقة غاية صعبة المنال.
- محاكمة وإعدام سقراط: أُعدِم سقراط لأسباب تتعلق بأفكاره التي اعتبرها البعض مخالفة لمعتقدات المجتمع. ورغم الحكم الظالم بإعدامه عن طريق شرب السم 💀، رفض سقراط محاولات تلاميذه لتهريبه من السجن، معللاً ذلك بضرورة احترام القانون. لقد كان يؤمن بأن الحياة الحقيقية تبدأ بعد الموت.
أفلاطون: التلميذ النجيب ونظرية المُثُل ✨
أفلاطون، وهو الاسم الذي يعني "الإنسان الضخم" باليونانية، كان من أبرز تلاميذ سقراط. كان أفلاطون ينتمي إلى أسرة أرستقراطية، وقد تلقى علومًا واسعة واهتم بالرياضيات قبل أن يلتقي بسقراط ويصبح تلميذه.
- تدوين فلسفة سقراط: كل ما نعرفه تقريبًا عن سقراط وصل إلينا من مؤلفات أفلاطون. كتب أفلاطون 34 محاورة، وهي عبارة عن حوارات فلسفية يكون سقراط طرفًا رئيسيًا فيها.
- تأسيس الأكاديمية: يُعد أفلاطون أول من أسس الأكاديمية، وهي بمثابة أول مدرسة حقيقية للتعليم العالي. وقد اشترط أفلاطون على الملتحقين بالأكاديمية أن يكونوا على دراية بالرياضيات.
- نظرية المُثُل: يعتبر أفلاطون صاحب نظرية المُثُل، وهي من أهم وأشهر نظرياته الفلسفية. ترى هذه النظرية أن العالم الذي نعيش فيه ليس هو العالم الحقيقي، بل هو مجرد نسخة باهتة عن عالم آخر حقيقي هو عالم المُثُل. يحتوي عالم المُثُل على الأصل الكامل لكل ما نراه في عالمنا الحسي.
- مثال: عندما نرى شيئًا جميلاً في عالمنا، فإن جماله هذا مستمد من مثال "الجمال" الكامل والمطلق الموجود في عالم المُثُل.
- الوصول إلى المعرفة: يرى أفلاطون أننا ندرك العالم الحسي عن طريق التجربة، بينما نصل إلى عالم المُثُل عن طريق العقل والتفكير المجرد.
- مثال: مفهوم "السعادة" في عالمنا الواقعي نسبي وغير مطلق، ولكن عندما نفكر بعقلنا في مفهوم السعادة المثالي، يمكننا أن نصوغ معنى أكثر جوهرية وكمالًا للسعادة في عالم المُثُل.
- أسطورة الكهف: يقدم أفلاطون أسطورة الكهف الشهيرة لتوضيح فكرته عن عالمي الحس والمُثُل. تخيل مجموعة من الأشخاص مُقيدين داخل كهف، ينظرون إلى جدار أمامه تظهر عليه ظلال لأشياء تمر من خلفهم أمام مصدر للضوء. يعتقد هؤلاء الأشخاص أن هذه الظلال هي الحقيقة الوحيدة.
- تفسير الأسطورة: يمثل الأشخاص المقيدون البشر الذين يعيشون في عالم الحس ويظنون أن ما يرونه ويختبرونه هو الحقيقة الكاملة. بينما تمثل الظلال تصوراتهم غير الكاملة والمشوهة للحقيقة. أما الخروج من الكهف والنظر إلى مصدر الضوء الحقيقي (الشمس) فيمثل ارتقاء العقل نحو إدراك عالم المُثُل والحقيقة المطلقة.
- الدولة المثالية: تصور أفلاطون مدينة فاضلة تقوم على العدل والحكمة، لكنه انتقد النظام الديمقراطي السائد في اليونان بسبب ما تعرض له سقراط.
أرسطو: قمة الفلسفة وتأسيس العلوم 🥇
أرسطو، تلميذ أفلاطون لمدة عشرين عامًا تقريبًا، يُعتبره الكثيرون أعظم فيلسوف في التاريخ من حيث غزارة الإنتاج. ورغم تتلمذه على يد أفلاطون، إلا أنه أسس فلسفته الخاصة التي اختلفت في جوانب كثيرة عن أفكار أستاذه.
- التركيز على الواقع: بينما كان أفلاطون يركز على عالم المُثُل، اتجه أرسطو نحو دراسة الواقع والعالم الحسي. يمكن القول بأنه وضع أسسًا للكثير من العلوم.
- المنطق الصوري: يُعد أرسطو أول من وضع منطقًا كاملاً ومكتملًا. وقد طور ما يُعرف بالقياس المنطقي لمواجهة حجج السفسطائيين.
- مثال على القياس المنطقي: إذا قلنا: "كل إنسان فانٍ" (مقدمة كبرى)، و "سقراط إنسان" (مقدمة صغرى)، فإن النتيجة المنطقية الصحيحة هي: "سقراط فانٍ".
- أهمية المنطق: كان أرسطو يرى أن المنطق أداة أساسية للتفكير الصحيح وكشف المغالطات. وقد أوضح كيف أن السفسطائيين يعتمدون على مقدمات خاطئة للوصول إلى نتائج تبدو منطقية ولكنها في الواقع غير صحيحة.
- مثال على مغالطة منطقية: "كل الإرهابيين مسلمون، وخالد مسلم، إذاً خالد إرهابي." هذا الاستنتاج منطقيًا سليم بناءً على المقدمات، لكن المقدمة الكبرى خاطئة، وبالتالي النتيجة غير صحيحة.
- مؤثر في الفلسفة اللاحقة: كان لأرسطو تأثير هائل على الفلسفة الغربية والفلسفة الإسلامية على حد سواء. فقد اعتمدت الفلسفة الإسلامية بشكل كبير على أفكاره، وبلغت شروحاته ذروتها مع الفيلسوف المسلم ابن رشد الذي لُقب بـ "الشارح" لأنه شرح أرسطو بتفصيل كبير.
- موسوعية المعرفة: كتب أرسطو في مختلف المجالات المعرفية، بما في ذلك علم الحيوان، وعلم الطبيعة، والأخلاق، والسياسة، والمعرفة.
- معلم الإسكندر الأكبر: كان أرسطو معلمًا للإسكندر الأكبر، الإمبراطور الذي أسس أكبر إمبراطورية في عصره.
إن سقراط وأفلاطون وأرسطو يمثلون الركائز الأساسية للفلسفة الغربية. لقد وضعوا الأسس لطرق التفكير الفلسفي، واستكشفوا أسئلة جوهرية حول الوجود والمعرفة والأخلاق والسياسة. ورغم اختلاف وجهات نظرهم في بعض الجوانب، إلا أنهم يشكلون معًا ثلاثية فريدة оказали تأثيرًا عميقًا على تطور الفكر الإنساني عبر العصور.