المحور الثاني الوعي وعن اللاوعي

لطالما تساءلنا: من نحن حقًا؟ هل نحن مجرد ذلك الجزء الواعي الذي يفكر ويشعر ويتخذ القرارات بملء إرادته؟ أم أن هناك منطقة أخرى مظلمة في أعماقنا تؤثر في سلوكياتنا وأفعالنا دون علمنا بها؟ هذا التساؤل يقودنا إلى صلب إشكالية الوعي واللاوعي، وهي من أهم المحاور في دراسة الفلسفة وعلم النفس. هذه المقالة التي بين أيدينا تقدم لنا مدخلًا مبسطًا لهذه الإشكالية.

نظرية فرويد عن الوعي وعن اللاوعي

نظرية فرويد عن اللاوعي: عالم الدوافع الخفية 🕵️

سيغموند فرويد  يفترض وجود اللاوعي كمنطقة نفسية واسعة ومؤثرة في حياة الإنسان. يرى فرويد أن معطيات الشعور ناقصة نقصًا شديدًا، بمعنى أن ما ندركه من دوافعنا وسلوكياتنا هو قليل جدًا مقارنة بما يحدث في الخفاء.

  • الهو (Id): منبع الغرائز البدائية 👶: يصف فرويد الهو بأنه الجانب الفطري الغريزي في الإنسان، والذي يتضمن الميولات والدوافع الأساسية المشتركة بيننا وبين الحيوانات، مثل الدفاع عن النفس، حب التملك، والانتقام، والأهم من ذلك، الميولات الجنسية. هذه الغرائز تستمد طاقتها من الطاقة الليبيدية (Libido)، وهي طاقة جنسية في جوهرها. الهو يعمل وفقًا لمبدأ اللذة، حيث يسعى إلى تحقيق الإشباع الفوري للرغبات دون مراعاة للواقع أو القيم. تخيل طفلًا صغيرًا يريد شيئًا ما، فإنه يسعى للحصول عليه مباشرة دون تفكير في العواقب أو مشاعر الآخرين.
  • الأنا الأعلى (Superego): صوت المجتمع والضمير 😇: مع نمو الطفل وتفاعله مع محيطه الاجتماعي، يبدأ في استيعاب مقتضيات الواقع والقيم الأخلاقية والدينية. هذه المبادئ والمعايير تتشكل فيما يسميه فرويد الأنا الأعلى أو الضمير الأخلاقي. الأنا الأعلى يمثل صوت المجتمع والرقابة الداخلية، ويقوم بتقييم أفعال الفرد بناءً على ما هو مقبول أو مرفوض، صواب أو خطأ، حلال أو حرام.
  • الأنا (Ego): وسيط الواقع وصراع الرغبات ⚖️: أما الأنا، فهو ذلك الجزء من النفس الذي يحاول التوفيق بين رغبات الهو وبين قيود الواقع ومتطلبات الأنا الأعلى. عندما يصطدم الهو، بتوقه إلى اللذة، مع الواقع والأنا الأعلى، الذي يفرض الواجب، ينشأ صراع داخلي. الأنا هنا يلعب دور الوسيط العقلاني الذي يسعى إلى إيجاد حلول وسطية ترضي جزئيًا رغبات الهو دون مخالفة الواقع أو إثارة غضب الأنا الأعلى.

الكبت واللاوعي: مخزن الرغبات الممنوعة 🔒

عندما يعجز الأنا عن تلبية بعض رغبات الهو بسبب تعارضها مع الواقع أو القيم، فإنه يلجأ إلى الكبت. الكبت هو آلية دفاعية يتم من خلالها إبعاد الرغبات والدوافع غير المقبولة أو المؤلمة عن منطقة الوعي وإيداعها في منطقة اللاوعي. هذا اللاوعي يصبح بمثابة خزان للمكبوتات والغرائز المنبوذة التي تم منعها في الواقع.

مظاهر اللاوعي في حياتنا اليومية 🤔

كيف لنا أن نتحقق من وجود هذا اللاوعي؟ يقدم لنا فرويد، عدة مؤشرات:

  • الأحلام 😴: في النوم، يضعف الوعي والرقابة الاجتماعية، مما يسمح لرغبات اللاوعي بالتعبير عن نفسها بشكل رمزي في الأحلام. قد يحلم شخص بأفعال يخجل من القيام بها في الواقع، وهذا يكشف عن دوافع مكبوتة.
  • زلات اللسان (Parapraxes) 🗣️: قد يرغب شخص في قول شيء ما، لكن يخرج منه لفظ آخر غير مقصود أو خادش للحياء. هذه الزلات، كما يرى فرويد، تدل على وجود دافع لا واعي كامن.
  • الأفعال غير المبررة 🤷: نرتكب أحيانًا أفعالًا لا ندرك سببها أو الدافع وراءها. قد يندم شخص على فعل قام به دون أن يعرف لماذا أقدم عليه في تلك اللحظة. مثال رمي الهاتف في لحظة غضب دون سبب منطقي يوضح كيف يمكن للاوعي أن يدفعنا للتصرف بشكل غير عقلاني.
  • تغير المزاج المفاجئ 😔😊: قد نجد أنفسنا في مزاج سيء دون سبب واضح في الوعي. يرى فرويد أن هذا قد يكون ناتجًا عن تراكمات في اللاوعي.
  • اللغة الجنسية في الغضب 😡🤬: عند اشتداد الغضب، قد يلجأ البعض إلى استخدام ألفاظ جنسية للتعبير عن أقصى درجات الكراهية، وكأن الوعي هنا يتخلى تدريجيًا عن سيطرته ليظهر دافع اللاوعي.
  • سلوك السكران 🍻: الشخص السكران قد يتحدث ويكشف عن جوانب من شخصيته وحقائقه التي يخفيها في حالة الوعي.

تشبيه المنزل: الوعي كواجهة واللاوعي كمخزن 🏠

لتبسيط الفكرة: تخيل أن الإنسان منزل 🏡. الجزء الصغير المرتب الذي نستقبل فيه الضيوف ونعرضه على الناس هو الوعي. أما الغرفة الكبيرة التي نجمع فيها الأشياء التي لا نحتاجها أو الذكريات غير السارة والتي لا نريد أن يراها أحد، والتي قد ننسى محتوياتها بمرور الوقت، فهي تمثل اللاوعي. قد يفتح هذا الباب فجأة وتتسرب منه أشياء لم نكن نتوقع ظهورها، وهذا يذكرنا بزلات اللسان أو الأفعال غير المتوقعة.

فرويد: اللاوعي هو المحرك الحقيقي 🎯

يخلص فرويد إلى أن اللاوعي هو المتحكم الحقيقي في سلوك الإنسان، بينما الوعي ليس سوى قناع سرعان ما يزول. في الحالات التي يضعف فيها الوعي، يصبح الإنسان أكثر جرأة ويكشف عن حقيقته الدفينة.

نقد آلان لنظرية فرويد: رفض فكرة اللاوعي كـ "أنا آخر" 🙅‍♂️

على الجانب الآخر، الفيلسوف الفرنسي إميل شارتييه، المعروف بـ آلان 👤. يرفض آلان فكرة اللاوعي كما طرحها فرويد.

  • اللاوعي كـ "حيوان مخيف" من صنع فرويد 👹: يرى آلان أن الفرويدية تصنع "فن إبداع الحيوان المخيف داخل كل واحد منا" بناءً على علامات عادية كالأحلام وزلات اللسان. يعتبر أن فرويد قد بالغ في تفسير هذه الظواهر العادية ليخلق مفهومًا مرعبًا للاوعي.
  • رفض فكرة وجود "أنا آخر" في اللاوعي ❌👤: ينتقد آلان بشدة الاعتقاد بأن اللاوعي هو "أنا آخر" له أحكامه المسبقة وأهوائه وحيله. يرى أن هذا خطأ كبير وقع فيه فرويد عندما افترض وجود "هو" (Id) ككيان منفصل يتحكم في الإنسان.
  • الأنا الواحد العاقل هو المسؤول 🧠: يؤكد آلان أن هناك "أنا واحدًا فقط"، وهو الأنا العاقل والفاعل والمسؤول عن أفعاله. كل ما نقوله ونفعله يدخل ضمن نطاق الشعور والوعي، أما اللاوعي فهو مجرد أسطورة خيالية تصورها فرويد.

مقارنة وتقييم: جدلية الوعي واللاوعي 🤔💬

عند مقارنة الرأيين، تبدو حجج فرويد أقوى في تفسير الأفعال التي تخرج عن إرادتنا وسيطرتنا. حيث يثير تساؤلات مهمة: من الذي يتحكم في أفعالنا اللاإرادية؟ لماذا نقول أشياء نندم عليها؟ لماذا نفعل أمورًا تبدو مخالفة لمنطقنا الواعي؟. هذه التساؤلات تجعل فرضية اللاوعي تحتفظ بقوتها وتأثيرها في فهم السلوك البشري. ومع ذلك، فإن نقد آلان يلفت انتباهنا إلى ضرورة عدم التسليم المطلق بفكرة اللاوعي ككيان منفصل ومستقل.


في الختام، يمكن القول أن فرويد يرى أن اللاوعي هو المتحكم الأساسي في سلوك الإنسان. في المقابل، يرى آلان أنه لا وجود للاوعي، وأن الوعي وحده هو الكيان المتحدث والمعارض. يبقى هذا النقاش مفتوحًا، ولكل منا الحق في تبني الرأي الذي يراه أقرب إلى فهمه للذات الإنسانية وعلاقتها بأفعالها وسلوكياتها.


❓اختبر معلوماتك حول هذا الدرس



سؤال و جواب

  • ما هو الدافع الأساسي الذي أدى إلى افتراض وجود اللاوعي حسب رأي سيجموند فرويد؟
    يرى فرويد أن افتراض اللاوعي ينبع من كون معطيات الشعور ناقصة نقصًا شديدًا. فما ندركه من أنفسنا ومن دوافع سلوكنا عن وعي قليل جدًا بالمقارنة مع الأفعال التي نرتكبها بدون وعي والتي لا ندرك أسبابها أو دوافعها بوضوح. كما أن التجربة اليومية تضعنا أمام أفكار ومشاعر ومزاج متكرر الظهور دون أن نعرف مصدرها الحقيقي في كثير من الأحيان.
  • كيف يصف فرويد بنية الجهاز النفسي للإنسان وما هي العلاقة بين مكوناته؟
    يقسم فرويد الجهاز النفسي إلى ثلاثة عناصر رئيسية: الهو (Id)، والأنا (Ego)، والأنا الأعلى (Superego). الهو يمثل الغرائز والميولات الفطرية التي تولد مع الإنسان وتسعى لتحقيق اللذة. الأنا الأعلى يمثل المبادئ والقيم والمعايير الأخلاقية والاجتماعية التي يكتسبها الفرد من التربية والمجتمع، وهو مبني على الواجب والمثاليات. أما الأنا فهو الوسيط بين الهو والواقع والأنا الأعلى، يحاول التوفيق بين رغبات الهو وقيود الواقع والأنا الأعلى. عندما يصطدم الهو مع الواقع والأنا الأعلى، فإن الرغبات غير المقبولة تُكبت وتُخزن في منطقة اللاوعي.
  • ما هي الأدلة أو المؤشرات التي يستند إليها فرويد لإثبات وجود اللاوعي وتأثيره على سلوك الإنسان؟
    يستشهد فرويد بعدة مؤشرات تدل على وجود اللاوعي وتأثيره، منها: * الأحلام: يرى فرويد أن الأحلام هي نافذة إلى اللاوعي، حيث يغيب الوعي والرقابة الاجتماعية، فتظهر الرغبات والمكبوتات بشكل رمزي. * زلات اللسان (أو القلم): يعتبرها فرويد تعبيرًا عن دوافع ورغبات مكبوتة تظهر بشكل غير مقصود. * الأفعال غير المبررة: هي الأفعال التي يقوم بها الإنسان ولا يدرك أسبابها أو دوافعها بوضوح، وقد يندم عليها لاحقًا دون فهم حقيقي لسبب قيامه بها. * بعض حالات الغضب الشديد أو السكر: في هذه الحالات يضعف الوعي والرقابة، وقد يتفوه الشخص بألفاظ أو يقوم بأفعال تعكس دوافع مكبوتة أو حقيقته التي يخفيها في حالة الوعي.
  • ما هو الدور الذي يلعبه اللاوعي في حياة الإنسان وسلوكه حسب نظرية فرويد؟
    يرى فرويد أن اللاوعي هو المتحكم الحقيقي والأساسي في سلوك الإنسان. فالوعي بالنسبة له ليس سوى منطقة ضيقة أو قناع يضعه الإنسان ليخفي أو يداري حقيقته الكامنة في اللاوعي. فالأفعال التي تبدو غير منطقية أو غير مبررة تنبع من هذا اللاوعي الذي يخزن الرغبات والدوافع المكبوتة والتي تسعى دائمًا إلى الظهور بطرق مختلفة.
  • ما هو موقف الفيلسوف "آلان" (إيميل شارتييه) من نظرية فرويد واللاوعي؟
    يعترض "آلان" بشدة على نظرية فرويد واللاوعي. فهو يعتبر أن الفرويدية ما هي إلا فن لإبداع "حيوان مخيف" داخل كل واحد منا بناءً على علامات عادية كالأحلام. ويرى أن فكرة اللاوعي كـ "أنا آخر" له أحكامه المسبقة وأهوائه وحيله هي فكرة خاطئة وخطيرة. يؤكد "آلان" أن الإنسان لديه "أنا" واحد فقط، وهو الأنا العاقلة والفاعلة التي تتكلم وتتحمل مسؤولية أفعالها. بالنسبة له، اللاوعي ليس سوى أسطورة خيالية تصورها فرويد.
  • بين رأي فرويد ورأي "آلان"، ما هي النقطة التي يتفقان عليها رغم اختلافهما الجذري؟
    على الرغم من الاختلاف الجذري بينهما، يتفق كل من فرويد و"آلان" على أن الإنسان غامض بالنسبة لنفسه إلى حد ما. فرويد يفسر هذا الغموض بوجود اللاوعي الذي يخفي جزءًا كبيرًا من دوافعنا. أما "آلان" فيعترف بهذا الغموض لكنه يرفض تفسيره بوجود كيان آخر غير الوعي.
  • لماذا يعتبر رأي فرويد أكثر قوة وتأثيرًا في تفسير بعض جوانب السلوك الإنساني مقارنة برأي "آلان" حسب ما ورد في المصدر؟
    يرى المصدر أن حجة فرويد أقوى لأن "آلان" لم يقدم تفسيرًا مقنعًا للأفعال التي تخرج عن إرادتنا وسيطرتنا. فالأسئلة حول مصدر هذه الأفعال غير المبررة أو الأقوال غير المقصودة تبقى بلا إجابة واضحة في نظرية "آلان". بينما تقدم نظرية فرويد عن اللاوعي تفسيرًا لهذه الظواهر من خلال فكرة الدوافع والرغبات المكبوتة التي تؤثر على سلوكنا دون وعي منا.
  • ما هي الخلاصة التي يمكن استخلاصها من هذين الرأيين المتعارضين حول الوعي واللاوعي؟
    توضح هذه الآراء المتعارضة وجود جدل فلسفي ونفسي حول طبيعة الوعي واللاوعي وتأثيرهما على سلوك الإنسان. فرويد يرى أن اللاوعي هو القوة المحركة الأساسية لسلوكنا، بينما ينكر "آلان" وجود اللاوعي ويعتبر الوعي هو الكيان الوحيد المسؤول عن أفعالنا. في النهاية، يترك المصدر للمتلقي حرية تبني الرأي الذي يراه أكثر منطقية وملاءمة لفهم طبيعة الإنسان وسلوكه.