النص السردي - مدخل مفاهيمي

مفهوم السرد هو الأسلوب أو طريقة تقديم الحكاية للأحداث التي تحدث في القصة. لكن، من المهم أن نفهم أن السرد ليس مجرد نقل الأحداث كما هي، بل هو الطريقة التي يختارها الكاتب لعرض تلك الأحداث. 

النص السردي

الفرق بين السرد والحكاية:

الحكاية تشير إلى الأحداث نفسها التي تروي القصة. مثلاً، في قصة عن رحلة إلى الفضاء، الحكاية هي كل ما حدث في الرحلة، مثل الإقلاع، السفر في الفضاء، لقاء كائنات فضائية، وهكذا.

أما السرد فيعني الطريقة التي يتم بها تقديم هذه الأحداث. هل تُعرض الأحداث بشكل خطّي؟ هل هناك فلاش باك (استرجاع للأحداث الماضية)؟ هل يتم السرد باستخدام ضمير المتكلم أم ضمير الغائب؟ هذه كلها خيارات سردية يقررها الكاتب.

أنواع السرد:

السرد يمكن أن يُعتمد عليه لتمييز أنماط الحكي المختلفة. من خلال السرد، يمكن للكاتب اختيار الطريقة التي يروي بها القصة، وهذه الطريقة تؤثر على شعور القارئ وتفاعلنا مع الأحداث والشخصيات. يمكن أن تُحكى القصة نفسها بعدة طرق مختلفة، وكل طريقة تضفي نغمة أو إحساسًا مختلفًا.

كيف يؤثر السرد على القارئ؟
طريقة السرد يمكن أن تؤثر على كيفية فهم القارئ للأحداث أو حتى تغيير نظرتهم إلى الشخصيات. على سبيل المثال: إذا اخترنا السرد في الزمن الحاضر، قد يشعر القارئ وكأنه يعيش اللحظة مع الشخصيات.

السرد في الزمن الماضي قد يجلب شعورًا بالبعد والحنين، كما لو أن الأحداث قد انتهت بالفعل.


استخدام ضمير المتكلم (أنا) قد يُشعر القارئ أن القصة شخصية جدًا، حيث يروي السارد من وجهة نظره الخاصة.
أما استخدام ضمير الغائب (هو/هي) فيمكن أن يعطي القصة بعدًا أوسع ويتيح للقارئ رؤية الأحداث من وجهات نظر متعددة.

1. السرد من وجهة نظر الشخصيات:

إذا اختار الكاتب أن يروي القصة من منظور شخصية معينة، كما في "رواية البؤساء" لفيكتور هوغو، فإن القارئ يشعر أن الأحداث تُعرض من عين الشخصية نفسها. مثال توضيحي: في رواية "البؤساء"، السارد يروي القصة من منظور جان فالجان، وهو الشخصية الرئيسية، مما يجعلنا نتعايش مع مشاعره، مثل الإحساس بالظلم والمعاناة التي يمر بها. السرد من هذا المنظور يعزز ارتباطنا العاطفي مع الشخصية، ويجعلنا نرى العالم من خلال عيونه.

2. السرد العليم:

أما في السرد العليم، فالسارد يعرف كل شيء عن الشخصيات والأحداث، ويمكنه التحدث عن أفكار الشخصيات ومشاعرهم وأحيانًا يلتفت إلى الماضي أو المستقبل. مثال توضيحي: في "رواية الحرب والسلام" لتولستوي، نجد السارد يعرف كل شيء عن الشخصيات وأفكارهم، وتكون القصة أوسع من مجرد عرض الأحداث. هذا النوع من السرد يسمح للقارئ بالاطلاع على كل التفاصيل الدقيقة والتفاعلات الداخلية للشخصيات.

3. السرد غير التقليدي (سرد متقطع أو غير خطي):

في هذا النوع من السرد، لا يتم تقديم الأحداث بشكل متسلسل أو وفقًا للترتيب الزمني. بل يتم التنقل بين فترات زمنية مختلفة أو الأحداث المتوازية. مثال توضيحي: في"مئة عام من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز، السرد يتنقل بين أزمنة وأماكن مختلفة في طريقة غير خطية. هذا السرد يخلق إحساسًا غريبًا أو سحريًا، حيث يتداخل الماضي والمستقبل في نفس اللحظة، مما يجعل القارئ يكتشف الأحداث بشكل تدريجي ودون ترتيب زمني معين.

السرد والخيارات الزمنية:

واحدة من الطرق التي يمكن أن يؤثر فيها السرد على القارئ هي اختيارات الزمن، أي هل السرد يتم في الحاضر، الماضي، أو المستقبل.

السرد في الحاضر:

    السرد في الحاضر يمكن أن يُشعر القارئ بأنه يعيش الأحداث في الوقت نفسه. هذا السرد يجعلنا نشعر وكأننا مشاركون في ما يحدث، وكأننا نعيش في تلك اللحظة مع الشخصيات. مثال توضيحي: في رواية "يوميات ضابط" (يوميات شخصية يكتبها الضابط في وقت حدوث الأحداث)، السرد يتم في الحاضر ويشمل جميع الأفكار والأحاسيس التي يشعر بها الضابط أثناء العمل. هذه الطريقة تجعل القارئ يتفاعل مع الضابط ويتفهم ما يشعر به في اللحظة.

السرد في الماضي:

    السرد في الماضي يمكن أن يكون له طابع حكاوي أو تأملي، مما يجعل الأحداث أكثر بعدًا عاطفيًا. عندما يروي السارد في الماضي، يمكن أن يكون في موقف المتأمل أو الناقد، مما يعطينا مسافة زمنية لنعكس ما حدث. مثال توضيحي: في "الرواية الكلاسيكية" مثل "تاريخ طويل من الحب والخيانة"، السرد يتم في الماضي، مما يعطي القارئ فرصة لفهم الأحداث من خلال الذكريات والتجارب الشخصية للشخصيات.

السرد المتقطع أو الاسترجاع:

    في بعض الأحيان، السرد المتقطع، حيث يتم التنقل بين الحاضر والماضي أو تقديم الاسترجاع للأحداث، قد يضيف غموضًا أو إثارة للقصة. مثال توضيحي: في "المرشد" للكاتب فلان، السرد يتم من خلال استرجاع الذكريات في فترات مختلفة، مما يجعل القارئ يكتشف تدريجيا أحداثًا وشخصيات تعود إلى الماضي ولكن تأثيرها مستمر في الحاضر.

اختيارات السرد وتأثيرها على القارئ:

من خلال السرد، يمكن للكاتب أن يختار التأثير على شعور القارئ بشكل معين:

السرد بضمير المتكلم (أنا): يجعل القارئ قريبًا من الشخصية، يراها ويروي الأحداث من خلال عيونها.

السرد بضمير الغائب (هو/هي): يجعل القارئ يشعر بأن القصة أوسع وأكثر تنوعًا من خلال *رؤية عدة شخصيات**.

السرد هو الأداة الرئيسية التي يعتمد عليها الكاتب لتوجيه القارئ نحو فهم أعمق للأحداث والشخصيات. من خلال الخيارات السردية، مثل الضمير، الزمن، و الأسلوب، يمكن للكاتب أن يخلق تأثيرات مختلفة على القارئ، مثل الإحساس بالترقب، التعاطف، أو حتى الارتباك. الاختيارات السردية تؤثر بشكل كبير على الطريقة التي نتفاعل بها مع القصة، وتساعد في توجيه مشاعرنا نحو الشخصيات أو الأحداث.

وظائف السارد في القصة الأدبية:

السارد في القصة لا يقتصر فقط على نقل الأحداث أو رواية القصة، بل يمكن أن يلعب عدة أدوار أو يؤدي وظائف متنوعة تُساهم في تشكيل النص الأدبي وإيصال رسائل معينة للقارئ. في الأدب، قد تتعدد وظائف السارد حسب أسلوب الكاتب والغرض الأدبي من القصة. ومن أهم وظائف السارد التي نرى لها دورًا محوريًا في تسلسل الأحداث وفهم القصة هي:

1. الوظيفة السردية:

هذه هي الوظيفة الأساسية للسارد، حيث يقوم السارد بحكي الأحداث و تقديم الشخصيات و وصف الأماكن والأشياء التي تشكل جزءًا من الحكاية. ببساطة، السارد هو الذي يحكي القصة بأكملها ويُظهر لنا كيف تسير الأحداث وتطوراتها، ويعطينا انطباعًا عن العالم الذي تدور فيه القصة. مثال توضيحي: في "ألف ليلة وليلة"، السارد يقوم بحكي العديد من القصص التي تدور في عالم سحري. نجد في كل حكاية تفصيلًا عن الأماكن مثل قصور الملوك والمدن البعيدة، والشخصيات مثل الملوك والحكام والأبطال، ويصف أيضًا الأشياء مثل الجواهر والسيوف السحرية. السارد هنا ينقل لنا الأحداث بشكل سلس ويغمرنا في عالم خيالي من خلال تقديمه لهذه التفاصيل الكثيرة.

هذه الوظيفة هي الأساس الذي يبني عليه السارد باقي المهام الأخرى. من دون هذه الوظيفة، لا يوجد شيء ليرويه السارد أو ليقوله للقارئ.

2. الوظيفة التفسيرية:

في بعض الأحيان، لا يكتفي السارد بتقديم الأحداث فقط، بل يدخل في عملية تفسير أو توضيح الأسباب وراء ما يحدث في القصة. قد يعرض السارد دوافع الشخصيات أو الأسباب التي أدت إلى وقوع حدث معين. يمكنه أن يوضح بشكل مباشر أو غير مباشر المشاعر الداخلية للشخصيات ويمنح القارئ فرصة لفهم أعمق لما يدور داخل عقولهم وأرواحهم. مثال توضيحي: في "الطاعون" للكاتب ألبير كامو، السارد لا يكتفي فقط بعرض تسلسل أحداث الوباء الذي يضرب مدينة "أوران"، بل يقوم بشرح التحولات النفسية التي يمر بها الناس نتيجة هذا الطاعون. فالسارد يوضح لماذا يتصرف بعض الشخصيات بنكران، والبعض الآخر بالحزن أو الغضب، بناءً على المعاناة التي يعيشها كل منهم. السارد هنا يقوم بتفسير السلوكيات المختلفة ويُلقي الضوء على الأسباب الكامنة وراء هذه التصرفات.

    هذا يتيح للقارئ أن يفهم الشخصيات من داخلها، وأن لا يرى الحدث فقط من الخارج، بل من خلال العوامل النفسية والاجتماعية التي أدت إلى حدوثه.

3. الوظيفة التواصلية:

الوظيفة التواصلية هي وظيفة مهمة للسارد حيث يقوم بالتوجه إلى القارئ أو المتلقي محاولًا تحقيق نوع من التواصل الفكري أو العاطفي معه. قد يستخدم السارد أساليب متعددة مثل الحديث الداخلي للشخصيات أو التوجيه المباشر إلى القارئ ليجذبه إلى فكرة معينة أو ليشعره بتوترات معينة. يمكن أن يُثير السارد القارئ من خلال الحوار أو الأسئلة أو حتى الأسلوب الأدبي الذي يتبعه. مثال توضيحي: في "الشياطين" للكاتب الروسي دوستويفسكي، يتواصل السارد مع القارئ من خلال الحديث الداخلي المكثف للشخصيات، خصوصًا تلك التي تعيش صراعًا داخليًا. السارد لا يروي لنا فقط الأحداث، بل يُقحمنا في عالم التوتر النفسي الذي تعيشه الشخصيات، ما يخلق نوعًا من التفاعل الفكري بين القارئ والشخصيات. القارئ يكتشف القيم والمفاهيم التي يعيشها كل شخصية من خلال محاورات داخلية، مما يجعلنا نحاكي أفكارهم ومشاعرهم.

    يساعد السارد في هذه الوظيفة على جذب القارئ، حيث يُمكنه التفاعل مع القصة على مستوى أعمق من مجرد تلقي الأحداث. السرد يصبح نوعًا من الحوار المستمر بين السارد والقارئ.

4. الوظيفة التقييمية:

السارد لا يكتفي فقط بعرض الأحداث أو تقديم الشخصيات، بل قد يُعلق على الأحداث من وجهة نظره الشخصية أو من موقفه الفكري. قد يظهر السارد سخرية أو تهكمًا على بعض الشخصيات أو الأحداث، ويُقيمها بناءً على معاييره الخاصة. في هذه الوظيفة، يصبح السارد قاضيًا للأحداث، معطيًا أحكامًا على تصرفات الشخصيات أو على مسار الأحداث. مثال توضيحي: في "موسم الهجرة إلى الشمال" للطاهر بن جلون، السارد يعلق على التجربة الثقافية لشخصياته من خلال نقد اجتماعي وفكري. السارد يستخدم لغة ساخرة أحيانًا لتصوير التناقضات الاجتماعية بين الشرق والغرب، ليعرض صورة انتقادية للعادات والتقاليد. من خلال تعليقاته، يعبر السارد عن موقفه الفكري، مشيرًا إلى التحديات التي يواجهها الأفراد عندما يتلاقى الشرق والغرب في سياقات اجتماعية وثقافية معقدة

    هذه الوظيفة تعطي السارد دورًا إضافيًا كـ ناقد اجتماعي أو فكري، مما يساهم في فتح المجال أمام القارئ للتفكير في الأبعاد الاجتماعية أو الفكرية التي تُطرح في القصة.

يمكننا أن نستنتج أن وظائف السارد تتعدى مجرد نقل الأحداث إلى مستويات أكثر عمقًا. السارد لا يحكي القصة فقط، بل يُشكل الجو الفكري والعاطفي الذي يدور حولها. من خلال التفسير و التواصل و التقييم، يساهم السارد في إثراء النص الأدبي وتوجيه القارئ إلى تأمل أعمق في الأحداث و الشخصيات.

طرائق السرد:

تختلف طرائق السرد من نص لآخر بناءً على الأسلوب الذي يختاره الكاتب لعرض الأحداث. هذه الطرق لا تقتصر فقط على طريقة عرض الأحداث، بل تشمل أيضًا كيفية تقديم الشخصيات و رؤيتها من داخل القصة. نلاحظ أن السرد يمكن أن يتم بطرق متعددة، وهو ما يميز الكتابة الأدبية ويعطيها عمقًا ويضفي عليها تباينًا في التفاعل مع القارئ. وسنركز على ثلاث رؤى سردية رئيسية تتنوع في مدى معرفة السارد بالأحداث والشخصيات.

1. الرؤية من خلف (سرد محايد):

في هذا النوع من السرد، يكون السارد عليمًا بكل شيء عن الشخصيات. هو يعرف أفكار الشخصيات و مشاعرها و أفعالها، ويمكنه أن يتنقل بحرية عبر الزمن والمكان في عرض الأحداث. يتيح له هذا النوع من السرد تقديم القصة من زوايا متعددة، حيث يمكن للسارد أن ينتقل من شخصية إلى أخرى، أو يتحدث عن أحداث في الماضي أو المستقبل. كما يمكن للسارد أن يعرض لنا ما يحدث في مكان بعيد عن الشخصيات. مثال توضيحي: في "رواية الحرب والسلام" للكاتب الروسي ليو تولستوي، السارد يستخدم الرؤية من خلف ليقدم لنا صورة شاملة عن شخصيات متعددة وعوالم مختلفة. السارد يعرف كل شيء عن الشخصيات من أعماقها النفسية و أفكارها و مواقفها الداخلية، بالإضافة إلى أنه يستطيع الانتقال بحرية بين الأحداث التي تجري في مختلف الأماكن والأزمنة. بهذه الطريقة، يعرض السارد أحداث الحرب و الحياة اليومية من زوايا متعددة، مما يسمح للقارئ بفهم أعمق للصراعات الداخلية والخارجية التي يمر بها كل شخصية.

السرد من خلف يجعل القارئ في موقع المراقب العليم الذي يطل على الأحداث من *منظور واسع. هذا يسمح بتقديم لوحة شاملة من جميع جوانب القصة والأشخاص المتورطين فيها.

2. الرؤية مع (سرد متقارب مع الشخصية):

في هذه الطريقة، يتساوى السارد مع شخصية واحدة في معرفته بالأحداث. السارد لا يعرف أكثر من الشخصية نفسها، وبالتالي لا يسبق الشخصية في تفسير الأحداث أو تحليلها. الرؤية مع تتسم بأن السارد يروي القصة من منظور الشخصية نفسها، ويقتصر على ما تعرفه وتراه تلك الشخصية فقط. فبالتالي، تكون معرفته محدودة بتجربة الشخصية داخل القصة. مثال توضيحي: في "رواية البؤساء" لفيكتور هوغو، يتم استخدام الرؤية مع، حيث يروي السارد الأحداث من خلال جان فالجان، الشخصية الرئيسية في الرواية. السارد يتفاعل مع ما يشعر به جان فالجان، ولا يكشف عن شيء أكثر مما يعرفه هو. يتعرف القارئ على الشخصيات والأحداث من خلال تصورات جان عن العالم، مما يعزز التعاطف معه. السارد في هذه الحالة لا يسبق جان فالجان في أي تفسير أو معلومات.

 السرد مع الشخصية يخلق نوعًا من الانغماس العاطفي في القصة. القارئ يعيش القصة عبر *عيني الشخصية، مما يجعله يشعر بما تشعر به، ويعيش الأحداث كما تعيشها تلك الشخصية. هذا النوع من السرد يضيف **طبقة من القرب أو المعاصرة مع الشخصية.

3. الرؤية من خارج (سرد محايد للغاية):

في هذه الرؤية، السارد لا يعرف أكثر من الشخصيات في القصة. كل ما يعرفه السارد هو ما يراه ويسمعه، ويكتفي بوصف الأحداث من المنظور الخارجي. لا يخترق السارد أفكار الشخصيات أو مشاعرها، بل يعرض لنا التفاصيل الظاهرة فقط. السارد في هذا النوع هو محايد تمامًا، كما لو كان مراقبًا خارجيًا لا يتدخل في مشاعر أو أفكار الشخصيات. مثال توضيحي: في "رواية الغريب" لألبير كامو، السارد يقدم لنا الأحداث من خارج الشخصية، أي أنه لا يدخل في أعماق شخصية ميرسو أو أي شخصية أخرى. السارد يروي الأحداث بشكل محايد تمامًا ويعرض الأحداث فقط كما هي دون أن يخوض في تفسير أفكار ميرسو أو مشاعره الداخلية. هذا النوع من السرد يعكس اللامبالاة أو التفرد العاطفي الذي يظهر في حياة ميرسو، حيث يعيش الأحداث في محيط خارجي غير قادر على التأثر به.

السرد من خارج يخلق نوعًا من الحيادية تجاه الشخصيات، مما يجعل القارئ يقترب من فهم الأحداث بنظرة موضوعية. لا يتلقى القارئ أي توجيه عاطفي أو فكري من السارد، مما يدفعه إلى الاستقلالية في تفسير تصرفات الشخصيات.

تختلف طرائق السرد من خلال الرؤى السردية التي يختارها الكاتب بناءً على رؤيته للأحداث والشخصيات. كل رؤية سردية تضفي بعدًا مختلفًا على النص الأدبي:

الرؤية من خلف توفر أفقًا واسعًا وتفاصيل شاملة.

الرؤية مع تتيح القرب العاطفي والتفاعل مع الشخصية.

الرؤية من خارج تقدم نظرة موضوعية محايدة، ما يسمح للقارئ بالتفاعل مع الأحداث بشكل أكثر تحليلًا واستقلالًا.

اختيار السارد للرؤية السردية لا يحدد فقط كيفية رواية القصة، بل يساهم في تحديد تجربة القارئ وكيفية تفاعله مع النص.

أشكال السرد:

أشكال السرد هي الطرق أو الأساليب التي يعتمدها الكاتب لتقديم الأحداث في النص الأدبي، ولكل شكل تأثيره الخاص على كيفية إدراك القارئ للأحداث والشخصيات. تتنوع أشكال السرد من حيث التتابع الزمني أو ترتيب الأحداث أو الطريقة التي يتم بها تقديم الشخصيات. نستعرض فيما يلي ثلاثة أشكال رئيسية للسرد: السرد المتسلسل، السرد المتقطع، و السرد التناوبي.

1. السرد المتسلسل: السرد المتسلسل هو الشكل الأكثر تقليدية والمباشر في سرد الأحداث، حيث يتم تقديم الأحداث بالتتابع الزمني الذي وقعت فيه. يتم الانتقال من حدث إلى آخر وفقًا لـ ترتيب الزمن. هذا الشكل من السرد يساعد في ترتيب الأحداث وجعلها مترابطة بشكل واضح، ويعطي للقارئ إحساسًا طبيعيًا بتسلسل الأحداث. مثال توضيحي: في "اليوميات" أو "الروايات التاريخية"، يتم استخدام السرد المتسلسل بشكل واضح. فمثلًا، في "يوميات" الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت-إكزوبيري، السارد يسجل الأحداث اليومية في ترتيب زمني دقيق، مما يجعل القارئ يتبع سير الأحداث كما لو كان يقرأ اليوميات الحقيقية لشخصية ما. يتم الانتقال من حدث لآخر بنفس التتابع الزمني، ما يساعد القارئ على متابعة تطور الأفكار والأحداث بشكل طبيعي.

في الروايات التاريخية مثل "الحرب والسلام" لليو تولستوي، السرد المتسلسل يعكس الأحداث التاريخية الهامة في ترتيبها الزمني، حيث يذكر السارد كل حدث تاريخي (مثل الحروب، المعاهدات، المجاعات) وفقًا لتسلسل حدوثه، مما يعطي القارئ فهمًا منطقيًا لارتباط الأحداث ببعضها البعض عبر الزمن.

 السرد المتسلسل يجعل القارئ يتبع الأحداث كما لو كانت تتدفق بشكل طبيعي، مما يساعد في فهم السياق التاريخي أو التطور الشخصي لشخصية معينة.

2. السرد المتقطع: في السرد المتقطع، لا يتم سرد الأحداث بشكل خطي أو تتابعي من البداية إلى النهاية. بدلاً من ذلك، يتم تقديم الأحداث بترتيب غير زمني، حيث يتم الانتقال بين أزمنة مختلفة أو يتم استخدام تقنيات مثل الاسترجاع أو الحذف. قد يتنقل السارد بشكل متقطع بين أحداث الماضي والحاضر أو قد يعرض الأحداث في فترات زمنية متباعدة. هذا الشكل من السرد يتيح للكاتب المزيد من الحرية الإبداعية في تنظيم الأحداث. مثال توضيحي: في "مئة عام من العزلة" للكاتب غابرييل غارسيا ماركيز، نلاحظ أن السرد لا يتبع ترتيبًا زمنيًا خطيًا. أحداث الرواية يتم تقديمها بشكل متقطع، حيث يسترجع السارد أحداثًا من الماضي ويُعيد ترتيبها بطريقة غير متوقعة، مما يخلق إحساسًا بالتداخل الزمني. الشخصيات تظهر في أزمان مختلفة، والأحداث تتداخل مع بعضها البعض، مما يضفي على الرواية طابعًا سحريًا ويجعل القارئ يتفاعل مع القصة بشكل أكثر تشويقيًا.

مثال آخر يمكن أن يكون "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف، حيث السرد يتم من خلال فترات زمنية متباعدة، مع استرجاع أحداث الماضي لتوضيح التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت في المنطقة.

السرد المتقطع يخلق تجربة قراءة غير تقليدية، حيث يكون القارئ ملزمًا بـإعادة ترتيب الأحداث في ذهنه لفهم العلاقة بين الماضي والحاضر، مما يعزز من الغموض والإثارة في النص.

3. السرد التناوبي: السرد التناوبي يعتمد على التنقل بين فصول مختلفة أو بين شخصيات متعددة لعرض الأحداث بشكل متوازٍ. يتم سرد القصة من خلال عدة وجهات نظر أو شخصيات، مع التنقل بين هذه الشخصيات أو الأحداث بشكل متناوب. هذا الشكل من السرد يُظهر تداخل الشخصيات وتفاعلها مع بعضها البعض، ويُستخدم بشكل خاص في القصص التي تتطلب عرض الأحداث من أكثر من زاوية. مثال توضيحي: في المسلسلات التلفزيونية مثل "لعبة العروش" (Game of Thrones)، يتم تقديم الأحداث من خلال عدة شخصيات، حيث يتنقل السرد بين شخصية جون سنو في الشمال، و دانيالاريس في الشرق، و الملكة سيرسي في الغرب، وغيرها من الشخصيات. كل فصل يعرض وجهة نظر شخصية معينة ويقدم تفسيرها الخاص للأحداث. هذه الطريقة تجعل السرد يبدو أكثر شمولًا وتُظهر تداخل الأحداث بين مختلف الشخصيات وأماكنهم.

كذلك، في "العمى" لجوزيه ساراماغو، يتم سرد الأحداث بالتناوب بين شخصيات مختلفة، مما يعكس تنوع تجربة الوباء بين الأفراد المختلفين. يتنقل السرد بين شخصيات متعددة، كل واحدة تعيش أحداثًا مختلفة في وقت واحد.

 السرد التناوبي يخلق تعددًا في وجهات النظر ويُظهر التداخل بين الشخصيات في تطور الأحداث. هذا الأسلوب يُضفي عمقًا دراميًا على القصة، حيث يتيح للقارئ أن يرى الأحداث من زوايا مختلفة مما يزيد من تشويق الرواية ويعزز فهم القارئ للعلاقات بين الشخصيات.

الفرق بين الكاتب، الشخصية، والسارد:

الكاتب: هو الذي يؤلف القصة، يخلق الشخصيات، ويحدد الأحداث التي ستحدث في النص. الكاتب هو الذي يضع الإطار العام للقصة ويصوغ الرسالة الأدبية التي يريد إيصالها للقارئ.

الشخصية: هي الكائن أو الشخص الذي تدور حوله *الأحداث. **الشخصية يمكن أن تكون بشرية أو غير بشرية (مثل حيوان أو كائن خيالي)، وتتحرك في إطار القصة وتؤثر في الأحداث وتُظهر ردود أفعالها تجاه ما يحدث.

السارد: هو الذي يقوم بسرد الأحداث للقارئ. السارد هو الوسيط بين القصة والقارئ، حيث ينقل لنا التفاصيل و الأحداث و أفكار الشخصيات بناءً على الطريقة أو الرؤية السردية التي يعتمدها.

خلاصة:

في هذا الدرس، تعلمنا أن السرد ليس مجرد نقل الأحداث بل هو الطريقة التي نعرض بها تلك الأحداث. من خلال اختيار السارد للرؤية التي يستخدمها (من خلف، مع، أو من خارج) وطريقة السرد (متسلسل، متقطع، تناوبي)، يمكن للكاتب أن يغير طريقة فهم القارئ للأحداث والشخصيات. كما أن السارد لديه وظائف متعددة تساعد في توجيه القارئ وفهمه العميق للقصة.

التحقق من الفهم